لا يمكن الحديث عن الثقافة السورية دون الحديث عن دور الثورة السورية التي قامت بهدم البنية القديمة لهذه الثقافة، وبداية إنتاج قيم جديدة لثقافة سورية جديدة تنتظر نهاية المرحلة الدموية من الثورة لتبدأ بالاستقرار، وهذه القيم الجديدة متنوعة ويجري اختبارها كل يوم.

رغم الدماء وقوافل الشهداء وتدمير المدن من قبل النظام بصواريخ السكود والطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة وكل وسائل القتل لم يتوقف السوريون عن الغناء والرسم والكتابة وإعادة طرح الأسئلة حول مستقبل سوريا، وشكل هذه الثقافة الجديدة التي تحتفي بالحرية المقبلة، حرية التعبير والنقد الذي لم يتوقف الثوار عن ممارسته منذ اليوم الأول لهذه الثورة العظيمة.

قبل الثورة وصلت الثقافة السورية إلى مرحلة الموت، غياب الصحف وتوقف الحركة النقدية أنتج شكلاً مخادعاً وكاذباً وفي أفضل الأحوال مجاملاً، يعيد تكريس الديكتاتور في الرسم والكتابة والسينما والمسرح وباقي الفنون، وهذا الديكتاتور تجلى بانكفاء النخب إلى إنتاج شكل علاقات تقترب من جماعات المافيا التي تحتكر كل أساليب التعبير، وتقوم بخصي النقد الذي تخلى عن مهمته الأساسية ليصبح شكلاً من أشكال التبجيل لما هو مكرس، تقتصر مهمته على المديح والمساهمة في التكريس لمجموعة أسماء منحها موقفها من السلطة حصانة كبيرة، وجرى تصديرها للخارج كمنتج إبداعي مقاوم للديكتاتورية، وهذا التواطئ المثير للريبة ساهم بالاحتفاء بالفتات التي كانت السلطة تقوم برميها بين الحين والآخر، خاصة بعد استلام بشار الأسد للسلطة عام 2000.

صحيح أن السلطة سمحت بهامش لهؤلاء الفنانين والكتاب بإنتاج نصوص مضادة لكنها في الوقت نفسه منعت التفاعل مع هذه الإبداعات، لم تتوقف حركة منع الكتب ومنع عرض الأفلام التي كانت تساهم هي ذاتها بإنتاجها، كما لم تسمح لأي مشروع جماعي بالنمو والاستمرار، كانت المشاريع الشبابية جري وأدها وحصارها والتضييق على أصحابها، كما جري منع أي عمل جماعي قد ينتج حالة نقاش في المجتمع إلا إذا كانت  هذه المشاريع تحت سيطرتها الكاملة، لذلك لم تسمح السلطة بإصدار أي صحيفة مستقلة، وحين سمحت بذلك لأول مرة كانت صحيفة مستقلة  مالكها واحداً من مدللي السلطة وموزها ولم تختلف عن الصحف الحكومية بأي شيء، بل زاودت في وولائها على الصحف الحكومية ،كما منعت المجلات الإبداعية المتخصصة، كما حصل مع مجلة ألف التي خصصت للاحتفاء بالكتابة الجديدة، أصدرها مجموعة كتاب مستقلين كنت من بينهم عام 1990، ولدينا عشرات الأمثلة التي كانت تصب كلها في خانة منع العمل الجماعي المستقل، وترك هامش للعمل الفردي على ألا يتجاوز الحدود الممنوعة والخطوط الحمراء المتمثلة بالرئيس وجماعته.

هذا الوضع الذي عاشته الثقافة السورية أنتج مجموعة أكاذيب كبرى في الحياة الثقافية، وتكريس مجموعة أسماء استفادت من غياب النقد، ومع انتشار ثقافة النفاق تحولت هذه الأسماء إلى مجموعة ديكتاتوريين صغار، تماهوا مع الديكتاتور الأكبر في محاربتهم للنقد الذي كان يتجرأ عليه بعض الصحفيين الشجعان أحياناً.

وموقف المثقفين السوريين من الثورة السورية يشرح بعض خصائص هذه الثقافة المنافقة، شعراء وكتاب ورسامين كبار وسينمائيين وقفوا ضد ثورة شعبهم التي تحدثوا عنها وبشروا بها أربعين عاماً، هؤلاء يتحدثون بأريحية عن الرسم الجديد والسينما الجديدة لكنهم يرفضون ولادة مجتمع جديد إلا على طريقتهم، ينظرون للثورة ويتناسون دماء شعبهم التي ملأت العالم وأصبحت أيقونة لكل السوريين الذين يحلمون بالمستقبل المدني لدولتهم الجديدة القائمة على إنتاج قيم نقدية جديدة لن تقوم قائمة أي ثقافة دونها.

أعتقد بأن الثقافة السورية قد صدمت الصدمة الكبرى التي تحتاجها أي ثقافة تريد النهوض وإنتاج قيم جديدة تكون شريكة الإنسانية في الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان كما تليق بتاريخ الثقافة العربية العظيمة، وهذه الصدمة التي مازالت مستمرة حتى الآن وستبقى مستمرة مادامت الثورة مستمرة وقادرة على إنتاج إشكال مقاومة ديكتاتوريات جديدة تطمح لإعادة إنتاج ثقافة الإقصاء ومنع النقد، خاصة الثقافة المتشددة التي تطمح لإنتاج شكل ديكتاتوري إسلامي جديد.

دم الشهداء منح الثقافة السورية الجديدة دفعة قوية، جرى تدمير ثقافة الصمت ومنع إنتاج أشكال نفاق جديدة في المجتمع السوري المدني الذي نطمح إليه جميعاً في سوريا الثورة والحرية.

English translation by Sawad Hussain may be found here